التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
من منطلق عمر بن الخطاب في تطبيق الحدود أنَّه كان يُفَرِّق بين محترف الجريمة الذي اعتاد أن يفعل الإثم، وبين من أخطأ مرَّة أو مرتين.
أخذ البعض انطباعًا بالعنف عن طريقة الإسلام في التعامل مع الجرائم التي تخلُّ بأمن المجتمع، وخاصة التعامل العمري الحاسم؛ مثل قتل الجماعة بالواحد، ومثل قطع اليد ثم الرجل لمن كرَّر السرقة، ومثل التعزير إلى جوار الجلد لمن كرَّر شرب الخمر، يضاعف إلى هذا الشدَّة في الحقِّ المعروفة عن عمر.
لكن انطباع العنف غير صحيح لأن في هذا التطبيق الشديد رحمة بالمجتمع، قد يفكِّر البعض أحيانًا في أزمة القاتل الذي يُقْتَل حدًّا ولا يفكرون بالمقتولين وأسرهم، وقد يفكِّر البعض في يد السارق التي قطعت، ولا يفكرون في العشرات والمئات الذين سُرِقوا على يده، وكم من اللحظات التعيسة قضوها بعد أن سطا على حقوقهم لصٌّ! ومع ذلك لم يكن عمر متعطِّشًا لإقامة الحدود إنما كان يدرأها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا!
منطلق عمر في تطبيق الحدود
أولًا: كان يُفَرِّق بين محترف الجريمة الذي اعتاد أن يفعل الإثم، وبين من أخطأ مرَّة أو مرتين، وبدت عليه أمارات التوبة الصادقة.
ثانيًا: كان يحب ألا تشيع الفاحشة في المجتمع: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]
شيوع الفاحشة يكون أولًا بالقول، ثم يكون بالفعل بعد أن يتساهل الناس في ذكر أخبار الفواحش، وروح الشريعة تدفع إلى عدم ذكر الفاحشة ولو في معرض الفقه والاستفتاء:
في القرآن: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189] وفيه: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وفيه:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
نماذج فريدة من خلافة عمر:
أولًا: الستر على أهل المعاصي:
1- عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنَّ ابْنَةً لِي وُلِدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمَتْ فَأَصَابَتْ حَدًّا وَعَمَدَتْ إِلَى الشَّفْرَةِ فَذَبَحَتْ نَفْسَهَا فَأَدْرَكْتُهَا وَقَدْ قَطَعَتْ بَعْضَ أَوْدَاجِهَا بِزَاوِيَتِهَا فَبَرِئَتْ ثُمَّ مَسَكَتْ وَأَقْبَلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ وَهِيَ تُخْطَبُ إِلَيَّ فَأُخْبِرُ مِنْ شَأْنِهَا بِالَّذِي كَانَ فَقَالَ عُمَرُ: أَتَعْمَدُ إِلَى سِتْرٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فَتَكْشِفُهُ لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ ذَكَرْتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهَا لَأَجْعَلَنَّكَ نَكَالًا لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ بَلْ أَنْكِحْهَا نِكَاحَ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ.
2- وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ فَقَالَتْ إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَفْضَحَكَ إِنِّي قَدْ بَغَيْتُ فَأَتَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَلَيْسَتْ قَدْ تَابَتْ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَزَوِّجْهَا»[1].
والقصة ذاتها: عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إِلَيْهِ ابْنَةً لَهُ، وَكَانَتْ قَدْ أَحْدَثَتْ لَهُ، فَجَاءَ إِلَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ: «مَا رَأَيْتَ مِنْهَا؟» قَالَ: مَا رَأَيْتُ إِلَّا خَيْرًا قَالَ: «فَزَوِّجْهَا وَلَا تُخْبِرْ»[2].
3- قال مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إِلَى رَجُلٍ أُخْتَهُ فَذَكَرَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ[3] فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ أو كاد يضربه ثم قال ما لك والخبر؟
قَالَ أَبُو عُمَرَ[4]: قَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي -وَاللَّهُ أعلم- فيمن تَابَتْ وَأَقْلَعَتْ عَنْ غَيِّهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حرم الخبر بالسوء عنها، وحرم رميها بالزنى، وَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَهَا إِذَا لَمْ تقم الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا.
وقال المناوي: «فيجب على المكلف إذا ارتكب ما يوجب لله حدًّا السترُ على نفسه والتوبة، فإن أقر عند حاكم أقيم عليه الحد أو التعزير، وعلم من الحديث أن من واقع شيئا من المعاصي ينبغي أن يستتر، وحينئذ فيمتنع التجسس عليه لأدائه إلى هتك الستر، قال الغزالي: وحد الاستتار أن يغلق باب داره ويستتر بحيطانه»[5].
ثانيًا: تحذير الولاة من دفع الناس إلى فضح أنفسهم:
عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ[6] عَلَى مَسْلَحَةٍ دُونَ الْمَدَائِنِ؛ فَقَامَ شُرَحْبِيلُ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ فِي أَرْضٍ الشَّرَابُ فِيهَا فَاشٍ وَالنِّسَاءُ فِيهَا كَثِيرَةٌ فَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ حَدًّا فَلْيَأْتِنَا فَنُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ طُهُورَهُ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «لَا أُمَّ لَكَ[7] أَنْتَ تَأْمُرُ النَّاسَ يَهْتِكُوا سِتْرَ اللَّهِ الَّذِي سَتَرَهُمْ»[8]. وزاد سبط ابن الجوزي في قول عمر رضي الله عنه: «لا تتأمَّر بعدها على اثنين»[9].
ثالثًا: السعي لدفع العاصي لعدم الاعتراف:
قال مالك عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ بِالشَّامِ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا. فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ إِلَى امْرَأَتِهِ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ. فَأَتَاهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ حَوْلَهَا فَذَكَرَ لَهَا الَّذِي قَالَ زَوْجُهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَخْبَرَهَا أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ، وَجَعَلَ يُلَقِّنُهَا أَشْبَاهَ ذَلِكَ لِتَنْزِعَ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْزِعَ وَتَمَّتْ عَلَى الِاعْتِرَافِ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَرُجِمَتْ.
رابعًا: اهدار دم الفسَّاق:
روى عبيد بن عمير[10] أن رجلاً ضاف ناسًا من هذيل، فذهبت جارية لهم تحتطب، فأرادها عن نفسها، فرمته بفهر فقتلته، فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال: ذاك قتيل الله، والله لا يُودَى أبداً[11].
خامسًا: التردُّد في رجم امرأة زنت مضطرَّة:
روى البيهقي عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: "أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِامْرَأَةٍ جَهَدَهَا الْعَطَشُ، فَمَرَّتْ عَلَى رَاعٍ فَاسْتَسْقَتْ فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إِلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، فَشَاوَرَ النَّاسَ فِي رَجْمِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَذِهِ مُضْطَرَّةٌ، أَرَى أَنْ نُخْلِيَ سَبِيلَهَا، فَفَعَلَ".
هذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بَعْدَ أَنْ رَجَمَ الْأَسْلَمِيَّ فَقَالَ: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ[12] الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيُتُبْ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لْنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[13].[14].
[1] «الاستذكار» (5/ 539).
[2] رواه عبد الرزاق / المصنف 6/ 246، صحيح. قال: عن الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن رجلاً.
[3] أَحْدَثَتْ: زنت
[4] أَبُو عُمَر:َ ابن عبد البرِّ:
[5] «فيض القدير» (1/ 155).
[6] شرحبيل بن السِّمط الكندي، جزم ابن سعد بأن له وفادة، ثم شهد القادسية، وفتح حمص، وعمل عليها لمعاوية.
[7] لا أم لك: عبارة ذم وسب، أي: أنت لقيط لا تعرف لك أم.
[8] رواه هناد / الزهد 2/ 646، وكيع / الزهد 3/ 774، صحيح من طريق هناد.
[9] «مرآة الزمان في تواريخ الأعيان» (6/ 235).
[10] عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مجمع على ثقته. تق 377
[11] رواه عبد الرزاق / المصنف 9/ 435، البيهقي / السنن الكبرى 8/ 337، 338، صحيح من طريق البيهقي.
[12] المراد هنا الفاحشة يعني الزنا.
[13] الحاكم (7615)، وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. ووافقه الذهبي.
[14] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عمر وستر أهل المعاصي
التعليقات
إرسال تعليقك